1.10.12

رواية شرفة العار

إنها الرواية التي فيها يُشرف الكاتب على العار المُصطنع والمُبتدع بحكم عادات وتقاليد جاهلية توارثها المجتمع العربي جيلا عن جيل، حتى صمدت إلى يومنا هذا رغم انفتاح الناس على عصر العلم والمعرفة. في بداية الرواية ترتسم أمامنا صورة محافظة البيئة العربية التقليدية، فنرى منار تلك الشابة العفيفة والتي هي مركز الرواية، تلك الطالبة الجامعية التي هي حلم أبيها والتي لم يجرأ يوما على تركها وحيدة بين الذئاب، فقد كان حريصا على إيصالها إلى مدخل الجامعة يوميا، ولكنّ كبار العائلة دائما ما كانوا يثبّطون من عزيمة أبيها ويوحون إليه أن الجامعة تُفسد الشباب كما الشابات. إلا أن أبا أمين يُصر على تحقيق حلمه في ابنته ورغم قلة حيلته وقعوده من المرض، إلا أنه يخترع الحلول ويوكّل يونس في البداية ليقلّ منار إلى جامعتها، ومن ثم يتولّى الأمر أمين. خلال فترة الدراسة تتعرّف منار على *** وتبدأ بالإقتراب منه ولكنها مع ذلك تبقى تلك البنت الشريفة المُخلصة لأنّ التربية التي نشأت عليها ما انفكّت تؤتي أكُلُها، ولكنّ الفساد الإنساني يلتصق بالفرد من حيث لا يدري، وعندها لا يملك قوة ولا حيلة لمواجهة الشر لما صار في وسطه دون قصد منه ولا رغبة.
 
 
تبدأ فكرة يونس السوداء تجول في رأسه إلى أن تحين له فرصة، فيختطف العبدة الفقيرة منار إلى مكان لم تطئه قدمها يوما، ويهمّ هناك ليفعل فعلته النكراء، متّخذا من جسد منار ملكا شخصيا له لإشباع غريزته الجنسية فيتنكّر لروحها ونفسها ويُحطّم قداسة عفتها ويفض بكارتها ويخلّ نفسيتها لتخرج عن توازنها المعهود! يُغلّق عليها الأبواب فتُذعر هي وتُقاوم، ويهمّ بها ولكنها لا تهمّ هي وتتملّص، ويُضيف إلى قوته الجسدية قوة السلاح فيُخرج سكينا ويقرّبها من رقبتها لئلا تجرأ على المقاومة، يتعرّى بالكامل ويُعرّيها رغم أنفها، وينال منها بذكوريته المحمية في مجتمع ذكوري، ويكسّر نفسها قبل جسدها، وينتهك شعورها قبل طهارتها. إنها جريمة لا يُمكن للقارئ تجاوزها بسهولة وهو يسمع تفاصيلها بدقة، مما يحشد تعاطفه الكبير مع الضعيفة منار، المحكومة لمجرد أنها أنثى. ترجع منار إلى بيتها فتنقلب حياتها رأسا على عقب وتبقى أسيرة نفسها ومأساتها لمدة أيام، ويزداد جرحها النفسي يوما عن يوم بعكس أي جرح آخر، وتزداد مشكلتها تعقيدا بعد ظهور الجريمة على جسدها!
 
 
حبيبها الجامعي يفتقدها فلا يجدها، عملها يطلبها فتذهب أخيرا ولكنها تكون منار أخرى لدرجة أن اسمها يصير مهزلة مع مصابها، أهلها يُلاحظون حالها الكئيب فيحاولون مساعدتها، إلا أن الكل يجهل جرحها، وكيف لها أن تُفصح عنه في مجتمع يُخطّئ المرأة ويُذنّبها في كل حال؟! من أين لها تلك الجرأة لتشاركهم حُزنها؟! وهل سيصدّقونها؟! هل هي نفسها تصدّق روايتها؟! حتما سيقتلونها دون تفكير، فحادثة قتل قريبتها لنفس السبب لم يمر عليها كثير من الوقت! إلا أن الكتمان يثور نفسه على الظلم ولكن ثورة التعصّب للعادات تكون أكبر، فينتشر خبر فاجعتها من امرأة أمين إلى أمها وأخيها الأصغر ومن ثم إلى أمين نفسه إلى أن تجري القصة على لسان القاصي والداني، وعندها تُرفرف راية العار السوداء عالية غير مُكتفية بجرح منار العميق، ومما يزيد الطين بلّة ويؤكّد القصة هو انتفاخ بطنها لتدخل في مرحلة الحمل! كل جهود الإجهاض تبوء بالفشل لأن الأطباء يُعجزونهم، الحصار الإجتماعي يُفرض على عائلة أبو أمين، وجريمة الإغتصاب تُنسى وتتحوّل إلى فضيحة وعار والمغتصب فارّ ولا يُعرف له مكان! يا لغدر الزمان والأيام، أهذا هو جزاء المحسن؟! أهو جزاء تستحقّه من تطلب العفة؟! لكنها دنيا لا يتم عدل فيها، ويبقى هناك ظالم ومظلوم.
 
 
ألسنة النار تستمر بإحراق قلب منار وأسنان الخناجر تُعلن تأهّبها لقتل الفضيحة قبل قتل المجرمة! مجرمة؟! أيترك المجرم الحقيقي الذي اغتصب وهدّد بالقتل دون عقاب وتنال الضحية عقابه؟! لكنّ جرم الضحية أنها رفعت الراية السوداء على مدخل بيتهم! في الحقيقة جرمها هو أنها وُلدت، وأنها أنثى، وأنها خرجت للتعلّم ومن ثم للعمل، وأنها لا تملك قوة جسدية ولا أداة تدافع بها عن نفسها، جرمها أنها وُلدت في عصر العقول المظلمة! تُنقل منار من سجنها إلى سجنها لتفادي بطش يد غدّارة تسلب حياتها الباقية، وتعيش هناك منار أقسى لحظات عمرها، فهل خُيّل لها أن تخرّ في هذا البئر العميق، وهل خُيّل لها أن ينتفخ بطنها قبل زواجها، أو أن تلد بلا أب أو أن تخرج من الجامعة إلى السجن ومن المجد إلى هذا الذل والهوان؟! أم هي حياة الأنثى لا يحقّ لها مجدا، وإن اعتلته يجب انزالها بقوة؟! وعندما يأتي الحلّ العبقري في نهاية الرواية وهو سفر منار مع أخيها القابع في دولة أخرى لتقضي بقية أيامها هناك، يعترض شرف العائلة ليُسقطوها قتيلة برصاصات أخيها أمين الذي لم يعد أخاها بفعلته القبيحة والمكمّلة لجرم يونس، وبذلك لتنتهي القضية بقتل الضحية وقتل المقتول لا لشيء إلا لكونها أنثى. أمين ذاك الذي أجرم مرتين بحقها، مرة عندما ترك يونس المنحرف جنسيا يقلّ أخته ورغم كونه على دراية بتاريخ يونس المُشبع بانتهاك الأعراض، والمرة التي فيها أرداها قتيلة ظانّا منه أنه بفعلته فإنه يغسل العائلة من العار وينتقم نقمة الرجال الأشراف. إنها جرائم الشرف التي لا شرف فيها! إنها جرائم الإنتقام التي تخدم سمعة رجال العائلة وإن كانت على حساب عذاب الأنثى! إنها الجرائم التي تُبرّر نفسها في مجتمع ذكوري مُغلق! وإن المنطق ليسأل: ما هي الفائدة من قتل المُغتصبة؟ هل سيُحصّل الرجال شرفا بالقتل؟ ثم ما هذه الأنانية التي تتنكّر للمرأة مهما كانت الظروف وحتى وإن كانت هي الضحية؟! وما هذا الإستبداد؟! إنها معالجة لمشكلة بمشكلة أكبر!
 
 
إن هذه الرواية تشدّ القارئ إلى أعماقها فلا تدعه يُفلت من حبكتها ولربما تدمع عينه عند احتدام أحداثها، إنها مكتوبة بأسلوب فنّي رائع وراق، فتلك الفقرات التي كانت تظهر في النص الروائي قبل حدوثها في عالم الرواية كانت تُشير إلى القادم وتزيد من التشويق لتتسلسل الأحداث فتصل إليها وتندمج معها في النهاية. أما رسالة منار في آخر الرواية فهي خاتمة تزيد الألم واقعية فيصير محسوسا بقلمها وخطّها المرسوم بالضنى والوجع، وهي مُلخّص ظلم مرفوض، عندما تُعامل الضحية معاملة المسؤولة عن جريمة لم ترتكبها، ولذا ولسبب انقلاب الموازين واختلال قانون "الصالح يستحقّ الجزاء الحسن والطالح يناله العذاب الأنكى" فإن الرواية تترك بالإنسان حُرقة وهمة كبيرة وعزم آخر لتغيير هذا الواقع البائس!
 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق